عزيزتي لواء،

وجدت في أرشيف الأفلام في برلين أمراً رائعاً، تمكنت بفضل عدسة التلفون من التقاطه والاحتفاظ به. سميته:

(la faille qui danse)

كيف تترجمين هذا إلى العربية؟

سجل أنا مجدلينا باخ - جان-ماري ستروب ودانيل هوييه - ١٩٦٨ من أرشيف الأرسنال في برلين

لم أكن أفهم شيئاً مما يقال، فقد كنت أشاهد الفيلم بنسخته الألمانية، لكن لحظة وقوع نظري على هذا الأمر – الذي سوف أسميه مؤقتاً "الثغرة الراقصة" بانتظار جواب منك لترجمة أفضل – شعرت بامتنان شديد لتلك اللغة الغريبة عني التي سمحت لنظري التقاط ضربة الفرشاة الرمادية هذه على الصورة الرمادية. لم ألتقط لحظة بداية ظهور الثغرة – تخيلي كلمة لحظة بالألمانية Augenblick تتكون من كلمتي Augen عيون و Blick نظرة. كنت مندمجة بالمَشاهد وفجأة صارت أمامي فقمت بتصويرها تلقائياً. وبدا لي بعدها، أي بعد أن شاهدت هذا المشهد الصغير مراراً وتكراراً، أن قدرتي على الكتابة يمكن أن تُختصر بقدرتي على التقاط هذه الثغرة أو غيرها والاحتفاظ بها.

بدت لي الثغرة في هذه اللحظة بالذات وهي تراقص يديّ آنّا مجدالينا باخ على أنغام ألّفها لها زوجها – أنغام كانت تدونها على كتيّب الكلافيير الذي أهداه لها: دفتر صغير ذو شكل مطاول، مطرز بالأخضر، ظهره وأطرافه من الجلد – بدت لي كندبة، جرحٍ لم يشف تماماً فبقي شاهداً على جسم الفيلم الذي يهرم ببطء. أكتب لك اليوم هذه الرسالة لأخبرك عن هذه الندبة الرمادية وقد عدت بها إلى بيروت حيث تسارعت الأحداث حتى كدت أنساها، إلى أن وجدت وبصدفة غريبة وحزينة النسخة الفرنسية لنص الفيلم.

"السجل الصغير لأنا مجدلينا باخ" - أنا مجدلينا باخ – طبعة ر.أ.كوريا ١٩٣٥

أودّ أن أتخيل أنه حين تتعثر الكتابة وتتقلص تضحي هذه الثغرة الراقصة بحدّ ذاتها هي فعل الكتابة: فهي التفصيل، شذرة الشيء، والصدع الذي تختبئ فيه احتمالات الكلمات، جسم يرتعش فيحمل في حركته صيرورة الكتابة. أيكون أجمل لو سميتها " الثغرة المرتعشة"؟

(la faille qui tremble)

عزيزتي لواء،

لا أريد تأجيل هذا الفعل بعد الآن؛ فعل الكتابة بالعربية. إنها المرة الأولى التي أتجرأ وأقترب منها، ومن المحتمل جداً أن تتسرب الفرنسية إلى البناء والتفاصيل. كان لا بدّ لي أن أتوجه إليك؛ أنت التي قلت لي يوماً فدونت كلماتك قرب كلماتي:

الدفتر الأزرق – ٢٣ آب ٢٠١٩

عندما بطئ الوقت فينا منذ شهور، ظننت أن وقت الكتابة قد جاء وأخيراً، مسالماً ومكتملاً. ولكن كان عليّ قبل كل شيء أن أبحث عن كلمات جديدة فتلك التي تملأ دفاتري لم تعد دقيقة بما يكفي؛ كلمات لا تحتوي على تدرجات وطيّات هذه الحالة الغريبة والحزينة معاً. لكن قبل أن أبدأ جدياً بالبحث داهمني الوقت وانتهى، فعاد كل شيء إلى ما كان عليه. أنا التي ظننت أني وأخيراً سأتحول إلى مارغريت دوراس في تروڤيل وأفرغ نفسي من كل شيء عدا الكتابة، كما فعلتِ أنت في الشام منذ سنوات. سنتين كاملتين، قلتِ لي، والبشر على الهامش وأنت والكتابة في اكتفاء ذاتي شبه كامل. لكن الوقت "الضائع" انتهى على غفلة وفات أوان الكتابة، أو أُرجئ. وأمام هذا الإرجاء وبدل الرضوخ له، دخلتُ شيئاً فشيئاً ثغرةً صغيرةً تكمن فيها لغة جديدة ليست سوى لغتي "الأمّ"، بطيئة وخرقاء، تتعثر وتتلعثم وكأن بطء اللغة هذا وتعثرها يشبه الوقت نفسه. فها أنا الآن في طفولة الكتابة مجدداً، وكما أكون دوماً، ولكن هذه المرة أكثر من أي وقت مضى. لن أؤجل هذه اللحظة بعد الآن.

الدفتر الأبيض – ٢ تموز ٢٠١٩

عزيزتي لواء،

أرسلت لي لميا ثلاث رسائل صوتية بعد غياب. وصلتني في المساء (وهو صباحها) ولكني انتظرت الصباح التالي لأسمعها.
الساعة ٩.٣١، تقول لي:
هلق كنت عالبلكون، كنت عم اتفرّج عجيراني. كتير بحب هيدا البطء تبعن، البطء تبع الناس الكبار بالعمر. وحدة كانت عم تسقي ورداتها والتانية عم تمسح الشباك والتالتة عم تاكل عالشباك وهي عم تتفرج على الناس يلي عم يسبحوا. بالشقة التانية في وحدة عم تقرا، كتير بحب هالمرا عفكرة. هني تنتين عايشين مع بعض. ما بعرف اذا هني أصحاب او بحبوا بعض. عطول بتقعد عالكرسي يلي بهزّ وعطول معا كتاب عم تقرا. وتحتها دغري كان ساكن واحد ختيار على فترة كورونا اختفى ما بعرف لوين راح. صراخ حسّون عالي كتير، تكة بس...

ثم، الساعة ٩.٤٨ تقول لي:
صرلي كم يوم عم فكر انو جاي عبالي خبرك شي، بس ما بعرف ليش ما عم بعرف إحكي. متحولة لفقاعة صامتة في هيك شي جواني هيك م... ما بعرف شو الكلمة يلي ممكن توصفه. شي بيشبه مدينة بعد ما خلصت الحرب. هيك م... ما بعرف شو يعني. انو يمكن الناس عم يحاولوا يروحوا يجيبوا أكلاتن و يكملوا حياتن بس المدينة هيك مدمرة يعني، ما بتشبه مدينة و... حاسة عم افقد قدراتي التعبيرية. ما عم بعرف إحكي ولا عم أعرف أكتب. بس خلصت دروس الفرنسي، فتح المسبح وكل يوم بنزل مع سلمى وحسن ومنرجع عالبيت هلكانين. هني كتير مبسوطين كتير بحبوا المي. وأنا هيك ما عندي شي احكيه عن حالي ولا عندي قدرة اتفاعل مع الأشياء. عم شوف أخبار عن يلي عم يصير بلبنان: الانتحار، السرقة، الجنان... والتحليلات. قدي نحن ما فينا نساعد حدا... وحاسة عم غرّق حالي بالتفاصيل عرفتي؟ عم صوّر أحيانا بس ولا مرة عم شوفن. بحس إني عملت شي بس صوّر. أي بس هيك.

ثم، الساعة ١٠:١٨ تقول لي:
كتير حلوين ورداتك. المجنونة بتذكرني بلبنان، بأول بيت سكنا فيه بالعبادية. كتير تأثّرت بالشي يلي قلتيلي ياه، إنو لبنان مهزوم، طفل مهزوم. إنك بتحبيه، حتى وهو... أو بتتعاطفي معه، حتى وهو هيك. ما بعرف بحسّ إنو بغضّ النظر عن الشي الخارجي يلي عم يصير، متل كأنه في حرب خارجية وحرب جوّانية، جوا كل شخص يعني. فـ... فنحن هيك عم نعيش الحربين بكل قساوتهن و... بتذكر في مراحل بسوريا كنت حسّ حالي من كتر ما بكرهها لهي البلد، وبكره قدي أنا مشّ سعيدة فيها بقلب هيدا البيت يلي هو بيت أهلي ويلي مشّ عم أعرف إهرب منو، كنت كل الوقت عم بتمنى إنو يا ريت هيك بتدمّر هيدي البلد يعني... كتير بتذكر إني راكبة بالباص راجعة عالبيت وعم إطّلع من الشباك وعم حسّ إنو كل هي الأبنية يلي عم شوفها تدمّر. هيك انعكاس يعني... مش نبوءة. بس الشي القاسي بلبنان إنو متل كأنه أصلاً ما خلصت الحرب. مدري شو اسم هالفترة الماضية كانت... إنتي خبريني إشيا إذا قدرتي، ضلّك خبريني يا ريت.

تأخرت إجابتي وتعثرت. بدت لي كلمات لميا وصوتها – ليتني أستطيع وصف طيّات صوتها وضحكتها الخجولة، وكأنها تعتذر عن قساوة الكلمات أحياناً – وكأنها تختصر السنين الأخيرة لنا كلنا. فهل – وكما كتب ف.س. فتزجيرالد – تصدّعنا (بحركة بطيئة ومفاجئة معاً) قبل أواننا؟ هل بتنا عالقين (معاً؟) في ما يسميه هو "رحم الوقت"؟ لا أعرف تماماً لمن تنتمي هذه الرسائل الصوتية؛ ألنصوصي أم لفيلم لميا الذي ذهب معها وبقي معلقاً في مكان ما بين سوريا ولبنان وكندا، معلقاً بيني وبينها، بين أحلامها التي ترويها لي أحياناً بكل تفاصيلها وأحلامي التي لا أذكر منها شيئاً عند الصباح؟ إنها أرشيف عوالمنا الداخلية التي تتناءى حيناً وتتلاقى أحياناً وتدور في فضاء داخلي فضفاض الحدود. أخاف أن تضيع هذه الرسائل، فكأن إن ضاعت سيبقى فيلم لميا معلقاً في نقطةٍ مجهولة فوق المحيط الأطلسي.

بعد أيام قلت لها: كأن الأدوار انعكست بينك وبين حسّون وصرتي إنتي بطفولة اللغة؛ الفرنساوي يعني. حلو هالمكان كتير. بيشبه ببطئه الطفولة والختيرة بنفس الوقت.

الدفتر الأسود – ٥ أيلول ٢٠١٩

عزيزتي لواء،

منذ سنة تقريباً، في ٤ أيار تحديداً، كتبت لي لتخبريني عن حادثة اختفاء مرعبة. فقد صورت رحلة العودة إلى الشام (رحلتك ولكن قبل كل شيء رحلة محمد بعد سبع سنوات من الغياب). صورت، وكما وصفت لي، لحظة ما قبل المغادرة، لحظة السفر ولحظة الوصول. ولكن، وبحظ عاثر انمحت الصور. وبعد أشهرٍ، في ٢٩ كانون الأول تحديداً وقبل أيام من الرحلة الثانية إلى الشام، وبنفس الحظ العاثر أو غيره، انمحت صفحات من الكلمات؛ مسودات شعر ومسرح. كتبت لي يومها رسالة غريبة وحزينة:
مضيّعة ريموت كونترول تافه
وقطعة من لعبة لماشا لسة أتفه
عم قضي كل الوقت عم دوّر عليهن بكل البيت
بركي بلاقيهن وبلاقي المسودات
أو بركي أنا وعم دور عليهن تحت التخت مثلا بلاقي المسودات
أو إنو لاقي الريموت على أساس لقيت المسودات

صديقتي، أي خسارة هي الأكثر قساوة: خسارة الصور أو خسارة الكلمات؟ وإذا كانت ستحصل لا محال، فكيف نتعلم التعايش معها؟ هل هذه حالنا كلنا هنا؟ لا ننفكّ نبدأ بعد أن أجّلنا لحظة الانطلاق، وعندما تأتي أخيراً يأتي بدوره شيء ما ليوقف مجراها ويعيدها إلى نقطة البداية. هل هي نفسها نقطة الصفر؟ أتظنين أن لدينا دائماً القدرة على تحديد موقع نقطة الانطلاق في لحظة معينة؟ هل حركة دوام التأجيل هي أمامية أم خلفية؟ هل تنتقل فينا إلى الأمام حاذفةً أم إلى الوراء مكررةً؟ ماذا لو اندمجت الحركتان معاً فنبدأ من الأول دائماً وكأننا نعيد كتابة الأشياء نفسها من مواقع لا متناهية؟

بعدها بأشهر كتبت لي أنك تنتظرين تسرّب الأشياء مرة ثانية إليك وبطريقة مختلفة، وكأن هذا التسرب هو العزاء... والرهان. كتبت: أترك الأشياء... كي تعود.

في يوم مشمس في الشتاء – شتاء يبدو لي اليوم بعيداً بعيداً – كنا أنا ودانيا جالستين أمام البحر وكنت أنعي دوام إرجاء كتابتي فقالت لي: ألا تظنين أنك قد بدأت منذ وقت طويل؟ بكيت قليلاً فقالت: عندما أعمل على عرض راقص، في كل جلسة تمرين أبدأ من الأول. أضع نقطة بداية وهمية أحياناً، فمن هذا الموقع تتصارع الحركات وتأخذ شكلها العضوي وليس الشكل الذي أفرضه عليها. وإلا كيف سأتمكن من إيصال توتر الحركة في سعيها للوجود أمام ما يعيقها أبداً؟

عزيزتي لواء،

وجدنا السنة الماضية أمام قلعة بعلبك لقية رائعة التقطها غسان بعدسة تلفونه: إنها كتاب محمد بين مجموعة كتب أخرى مصفوفة على الرصيف وبمتناول الجميع. ولم يكن قد بقي عنده أي نسخة منه، فقدمنا له كتابه هدية.

"السينما المؤجلة" – محمد سويد - ١٩٨٦

لماذا اختار محمد هذا العنوان؟ أهو نبوءة أو حال السينما دائماً أن تؤجل؟ هل تظنين أننا نعيش، كما قال هو صباح اليوم لغسان بالفرنسية: la plus mélancolique année de notre vie ؟ هو الذي سكن الملانكوليا وأعلنها منزلاً حين قال: أنا في الكاميليا. هل تظنين أن الكاميليا هو المكان نفسه الذي سماه راينر ماريا ريلكه: Weltinnenraum الفضاء الداخلي للعالم؟ أترين مثلي أنهما يصفان الحالة نفسها، حيث تتحول الثغرات لتتجلى راقصةً؟ هلا تكتبين لي بخط يدك هذه الجملة: أنا في الكاميليا؟ فخطّي أنا لا يزل أخرق، وأريدها وشماً على ذراعي كي لا أنسى ذلك أبداً.


كارين ضومط

مواليد 1981. مونتيرة وكاتبة مستقلة مركزها بيروت. تتألف أعمالها من مجموعة متنوعة من الأفلام الوثائقية الطويلة والأفلام التجريبية. وهي تشارك أيضًا كمستشارة للكتابة والمونتاج في ورش العمل وفي برامج جامعية، ومع صانعي الأفلام والفنانين المستقلين.

نشرت مجموعة متنوعة من النصوص حول السينما وعن السينما. هي جزء من "مجموعة في الكاميليا"، تستكشف الأشكال الهجينة للكتابة في السينما. المجموعة هي نموذج تعاوني يبحث في الطرق التي تتشابك فيها الممارسات الفردية والمشتركة.