في أوائل آذار 2020، قررت الحكومة اللبنانية إلزام اللبنانيين بحجر عام في منازلهم طوال 3 أسابيع علاجاً لانتشار فايروس كورونا المستجد، كوفيد-19، المتحدر من سارس، والقادم من ووهان الصينية من طريق إيران وإيطاليا وفرنسا. وكانت شروط الحجر الداخلية، في بيروت، ما عدا إقفال الأماكن العامة والمشتركة وتعليق النقل الجوي، غير ثقيلة الوطأة عموماً. وبقي السير الداخلي على قدر من السيولة. وقيدت سير السيارات الفردية والخاصة اعتبارات عملية، سببها إغلاق الإدارات والمصارف والمكاتب والمدارس فوق ما تسبب فيه القرار الحكومي وبنوده. وأقامت سيارات النقل العمومي الصغيرة على عملها. وأقام المشاة على مشيهم وانتقالهم، إلى ساعات الليل الأولى والمقفرة.

نشأة الممشى

وتخلل الأسبوع الأول من الحجر والإقفال يوم أحد ربيعي الشمس والحرارة. فخرج المتنزهون المشاة إلى كورنيش المنارة وشرفتها البحرية الطويلة (2.5 كلم بين عين المريسة -–الحاج داود وبين مدينة الملاهي- منتجع الروضة) ورصيفها العريض، "جماهير" كثيرة ومتراصة. فخالف المشهد، وهو لم تغفله شاشة من شاشات التلفزيون (المحلية والعربية)، الإجراءات والقيود المعلنة، وطعن بخفةٍ مسرحيةٍ واحتفالية في النتائج المحتسبة منها، والبالغة الأكلاف المتوقعة.

وبين ما ترتب على المشهد تنبهُ الهيئات الحكومية على صدارة كورنيش المنارة الإعلامية والاستعراضية ("والسياسية" المتعلقة بالقرارات ونفاذها، القوي أو الضعيف). وإلى يوم الأحد ذاك، وسع المتنزهين والمشاة المتريضين وغير المتريضين، والمراقبين من سياراتهم المركونة أو السيارة أهلَ الرصيف والمسرحين النظر في البحر- وسع هؤلاء التردد إلى الشرفة على هواهم، ومن غير قيد أو تضييق. والحق أن من أقاموا على التردد، بعد إجراء الحجر والإقفال، قلة قليلة ذكرت بتناقص عدد المشاة في شهر رمضان، شهر الصوم عند المسلمين (إلى 2015 تقريباً عاد بعدها مرتادو الشرفة إلى التكاثر)، وفي أيام بعض المباريات الكبيرة في نهائيات المونديال. ويعود التناقص، قياساً على الأعوام العادية والمتصلة، وهي ترقى إلى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، إلى مطلع الحراك في الشهر العاشر من العام 2019.

فسيرت قوى الأمن الداخلي والشرطة البلدية، غداة الأحد العتيد، دوريات متباعدة وقليلة تولت مراقبة "التجوال"، أي مشي المشائين الذين اقتصروا على المتريضين القلائل وبعض المروّحين عن الحبس في البيوت، على الشرفة البحرية. وبدا أن جل هم الهيئة الموكلة بالمسألة هو تفادي المشهد الذي رد على قرار الحجر بتظاهرة احتفالية عريضة. فحصرت الدوريات مراقبتها، وتعقبها المخالفين في الذين يعتلون (خشبات) الرصيف البحري، ويذرعونها جيئة وذهاباً، وفي وسع آلات التصوير إثباتهم وبث صورهم في نشرات الأخبار المسائية، والإستدلال بهم على ضعف إنفاذ القرارات الحكومية. وإذا حرصت الدوريات القليلة على أن يُنجز المخالفون إخلاء الرصيف وهم حضور، غضت النظر عموماً عن انتقالهم إلى الرصيف الآخر، الضيق والمتستر ببعض الشجر وجدران الأبنية الشاهقة المتراصفة، والمتخفي على التصوير. وبعض الدوريات اقترح من تلقائه على المخالفين اللجوء إلى حيث لا يتعرضون لملاحظة الشرطة والكاميرات.

وعملت قلة متناقصة (منها كاتب المقال) باقتراح الشرطة، أياماً قليلة. فضيق الرصيف يحول دون المشي اثنين معاً، ويضطر الواحد أحياناً إلى تركه. وتحجز السيارات المركونة إلى حافة الرصيف بين الرصيف وبين الطريق. فيتقطع المشي السريع ويتعرج، وتستحيل المحادثة بين الماشين، وهي من عناصر المشي المستقر والمداوم. وفي الأثناء، لم تكف الدوريات عن الصياح والتقريع، ومنبهاتها الغليظة عن الدوي. وكان سبق أن لجأ مشاة إلى مواضع أخرى من الشريط البحري، والاستعاضة بها عن الرصيف ومساره المعتاد.

المسرح - الملجأ

ومن هذه المسارات الجادة التي تصل نواة أبراج "المارينا"، أي مرسى اليخوت ورصيفه، "خليج" الزيتونة ("زيتونة باي")، بمرفأ بيروت. وهذا المسار، على خلاف الشرفة، لا مطل له على البحر، ورصيفه يقل عن مترين (نظير سبعة أمتار إلى عشرة متوسطاً على الشرفة)، ويبلغ طوله كيلومتراً واحداً، ويرتاده مشاة يعرقلون السير السلس عليه. ويتشارك مع الشرفة قيام صف مرصوص من المباني على جهته الأخرى، وسيراً مزدحماً يبعث غازات محترقة كثيفة في ساعات الانتقال بين ناحيتي بيروت الجغرافيتين والسكنيتين. وتنحرف عن هذه الجادة إلى الغرب والشمال صوب البحر، عند مستديرة يطل عليها "فور سيزينز أوتيل" شرقاً، والجزء الشمالي من الزيتونة غرباً- طريق عريضة ومزدوجة (ذات شعبتين أو اتجاهي سير).

وهذه الطريق هي ضلع مثلث مستقيم، ضلعه الأول هو المسار الذي تقدم وصفه، أي طريق المرفأ، وضلعه الثاني هو خط يمتد، إلى الغرب وعلى زاوية مستقيمة، بمحاذاة المرفأ ونهاية المسار، نحو خمسمئة متر صوب البحر القريب. والضلع الثالث هو الطريق التي تصل زاوية الضلع الثاني البحري بالمستديرة أو الملتقى المزدوج. ومساحة المثلث تبلغ نحو 4 كلم مربع ونصف الكلم. والمثلث هو ما يعرف بمنطقة الردم، أو منطقة "سوليدير" الخاصة. وهي تحصلت من ركام النفايات والقمامة والهدم والبقايا، على اختلاف مصادرها وصنوفها، التي ألقى بها في "المكب" سكان الوجه الغربي من بيروت طوال الأعوام 1975-1991.

وحُمل المثلث على أرض خلاء، أو موات في مصطلح الفقه الاسلامي، ونسب إلى "سوليدير" إحياؤها أو استصلاحها. وعمل بقاعدة "من أحيا أرضاً مواتاً فهي له" في صيغتها القانونية التجارية. فاستملاك المثلث، واستثماره من بعد في إطار مخطط الشركة العام، "جزى" الاستثمارَ الأول وأكلاف الإدارة والتشغيل والصيانة. وكان خاتمة العقد المفترضة وجوهرة التاج. فـ"اقتصرت" المساحات المشرعة للبناء المرتفع على 2.3 مليونين متر مربع، أي نحو نصف مساحة المثلث المستصلح [1]. وصرف الجزء الباقي إلى إنشاءات متفرقة، من حزام "جبهة البحر" بجوار الماء إلى حديقة عامة، فإلى جادتين عريضتين ورصيفين عريضين، وبين الجادتين مساحة لا تقل عرضاً عن الجادة الواحدة، تصلح لزارعة حديقة تكون نزهة للعين. وفي موازاة الضلع الثاني أنشئت معارض فسيحة للرسم والكتب والهندسة، ومدينة ألعاب للأولاد ودور للرياضة وملاهٍ ومدرسة... وإلى الجادة المزدوجة، في مثلث "سوليدير" غير المبني إلى اليوم، لجأ من بقي من المشاة الهاربين من مطاردة دوريات الشرطة على رصيف كورنيش المنارة في أيام الحجر والإغلاق الآذاريين، ومن عسر المشي على الرصيف الآخر الضيق والمحاصر بالسيارات، والهاربين أخيراً من ضلع المثلث الأول بين الزيتونة والمرفأ. وكان اللاجئون الهاربون في وقت أول قلة قليلة، لا تتجاوز العشرات. وفي غضون أسابيع، هي أسابيع الحجر وأسبوع أو اثنان بعدها، أمست الجادة المزدوجة (المحظورة على السيارات الفردية والمركبات) ورصيفاها مرفقاً عاماً يؤمه آلاف المشاة والدراجين، ويكافئ مرفق الشرفة البحرية على الجهة المقابلة من الشاطئ، بين ساحة عين المريسة والحمام العسكري- مدينة الملاهي [2].

شكل المكان

والحق أن المكافأة لا تتجاوز العدد إلى غيره من وجوه المرفق أو الجهاز، ومن "عمله". فللمكان في الموضع شكل غير شكله في الموضع الآخر، وهندسة أو تقسيم غير هندسته أو تقسيمه. والمساحات والمسافات في الحالين مختلفة. ويُدلف إلى الموضعين من طرق وأحياء متباينة ومتباعدة. ويترتب على هذا استعمال الموضعين، مشياً أو ركضاً أو ركوب دراجات هوائية أو نارية، فرادى أو أزواجاً أو جماعات، على قصد الرياضة أو النزهة أو ترويحاً عن كلب البيت...، على أشكال كثيرة. و"المستعملون"، المشاؤون وجمهور المترددين إلى الموضع، يتفرقون جماعات على نسب يتفاوت تركيبها بحسب السن والجنس والقصد والتواتر. وترسم الفروق الكثيرة هذه ملامح المرفق المستحدث على نحو يجعل منه حادثة اجتماعية جديدة تدرج في تاريح الحوادث الاجتماعية المدينية التي تعرِّف عمران بيروت، مكاناً وجواراً وأهلاً ووظائف وعلاقات. والوصف الذي يلي مقدمة في تأريخ الحادثة.

الحادثة الاجتماعية المدينية

يتناول الفرق الأول موضع المسرح الجديد. فعلى خلاف كورنيش المنارة، وهو وصلة مباشرة وموازية وخارجية بين كتلتين من الأحياء بينهما عشرات المسالك الوسيطة، يستوي ملحق الزيتونة خلاءً هندسياً مغلقاً، أو شريطاً يدور على نفسه. والمدخل إليه من الساحة المشتركة بين سطح مجمع الزيتونة وبين "فورسيزنز أوتيل"، هو المخرج منه. وعلى الداخل أن يعود أدراجه، مثالياً، حين يبلغ آخر الطريق نصف الدائرية، ويخرج من باب مواز للمدخل، ويبعد عنه نحو عشرة أمتار هي عرض الفاصل بين جادتي سير المركبات المعبدتين والمعطَّلتين. ونهاية الطريق نصف الدائرية تحاذي أطراف المرفأ والأحواض والمخازن، الجنوبية. ومليونا المتر المربع والثلاثمئة ألف متر المتروك معظمها برية ينبت فيها عشب "مجنون" لا يُرعى وشوك، هي المساحة العقارية المعدة، في مخطط "سوليدير"، لتشييد "قرية" سكن تجمع عمارة الصيفي ("فيليدج") إلى عمارة "الوادي"، في ميناء الحصن فعلاً وليس في وادي أبوجميل القائم قبالة باب ادريس وبمحاذاة "الأسواق"، على أرض تساوي مساحتها ثلاثة إلى أربعة أضعاف المشروعين الناجزين الفخمين معاً [3]. وينجم عن هذا الفرق شبه قوي بين المسرح الملحق بالزيتونة وبين جزيرة قائمة بنفسها ومعزولة.

وتصف العزلة المرفق، على حاله اليوم وما بقي إنجاز مخططه معلقاً. فهو يتصل بالضلع الأول، الزيتونة- المرفأ وشارعه، بست طرق عريضة تقع مداخلها أو بواباتها على طول الضلع، من ناحية، وعلى امتداد شوارع ينزل بعضها إلى الغرب، من مربعات الشريان الذي يصل ساحة الشهداء شرقاً بزاوية ميناء الحصن والقنطاري غرباً، من ناحية ثانية. وفي وسع السيارات دخول المثلث من هذه البوابات، والخروج منها، إذا رفعت الحواجز الحجرية التي تسدها اليوم، وأخلى رفعُها مسرح المثلث للسير عليها. وما دامت هذه الحال، فمثلث "سوليدير" أو الزيتونة اليابسة (على خلاف "الخليج")، ملحق مسدود وموقوف على النزهة والمشي والرياضة وركوب الدراجات والترويح عن الكلاب.

وترسم العزلة والمساحة البرية الواسعة، إلى الموقع بجانب البحر- مجتمعة- خريطة غنية ومتنوعة للمكان. فعلى "كتف" البحر القريب تزنر شرفة عرضها نحو ثلاثة أمتار، "تركض" من المارينا، بموازاة الماء، أطراف المرفأ وحوضه الجنوبي، أي الوجه البحري من المثلث. ويُنزل إلى الزنار من أدراج في السور البري يبلغ عدد درجات الواحد منها خمساً وتكسو الأرضية طبقة من الاسمنت القاحل والجاف. ولا تصلح هذه الشرفة المصنوعة إلا للوقوف والاتكاء على الدرابزين القريب عصراً ومساءً. ويقصدها، من الجماعات التي تتردد إلى المكان، الأزواج (الذين يمشون اثنين اثنين) الفتيان الراغبون في الخلوة، وفي إشهاد البحر والمغيب على خلوتهم. وتقصدها شلل الفتيان والفتيات، مختلطة أو متجانسة، وتتخذها ملعباً. وبعضهم يقصدها، وينتهز الفرصةَ للاستماع إلى تسجيلات متفرقة، وبعض آخر يصوّر نفسه أو المنظر ويخزنه في خلويه. وقد تتكئ عائلة تعد أعماراً متفرقة (طبعاً) تزور الموضع إما عابرة أو في سبيل التعرف على درابزين الشرفة بعض الوقت، وتنصرف، فلا تعيد الكرة أو تعيدها. وهؤلاء جميعاً، رغم عددهم الذي قد يبلغ العشرات الكثيرة، ليسوا من المشائين ولا من صلب جمهور المسرح الناشئ، ولا نشأ مع هذا الجمهور. فهو يرتاد هذه الناحية من المسرح منذ استواء المكب على الشاكلة التي تقدم وصفها الأولي.

ويوازي زنارَ الشرفة شريط بري عرضه نحو العشرة إلى العشرين متراً، أو أقل أو أكثر على هوى مواضعه غير المستوية. وهو أرض موات حُفرت بعض مواضعها في انتظار حديقة موعودة ومرجأة. ويستعمل اليوم "طريقاً"، أو ميدان طرق مرتجلة، إلى الشرفة القريبة. وقد يجلس بعض المتنزهين على حائط الشرفة البري ووجههم إلى الجبل، ويختار بعض آخر اجتيازه، بموازاة الطريقين المعبدتين، والجوس في حشائشه وأشواكه، بمنأى من ضوء المصابيح المسلط على إسفلت الجادتين وعلى اسمنت الرصيفين وما بينهما. وعلى هذا، يتوسط الشريط "جبهة البحر" الواطئة من جهة، والمرفق المستحدث من جهة أخرى.

والمسرح، على المعنى الدقيق، هو الخطوط (الأشرطة) العريضة والمتوازية التي أحصيت للتو، أي الجادتان المعبدتان بالإسفلت، والرصيفان على الجهتين الخارجيتين، وفي الوسط الحاجز العريض الذي يقوم مقام الخندق أو السلسلة أو أصص الأزهار العالي. والمسالك أو الروافد الستة التي تتفرع عن الضلع الأول، وتمتد كالشرايين (المسدودة) في القرية المعدة للبناء جزء طرفي وهامشي من المسرح. وهذا الجزءُ، لما كان هامشياً لولا افتقار المسالك إلى المصابيح في أعلى أعمدتها المنصوبة. وكانت المسالك ترفد المسرح المركزي إذا جازت العبارة، بشطر كبير من المشائين والدراجين والمتنزهين القادمين من الأحياء المجاورة للمرفأ، شرقاً وغرباً. وغداة كارثة الانفجار التي عصفت بهذه الأحياء (في الرابع من آب)، انقطعت روافد المشائين والدراجين، ولم تستأنف سيرتها السابقة إلى اليوم (منتصف تشرين الثاني 2020). ولم يفت المراقب المشاء ملاحظة صفة الجمهور القادم من هذا الصوب: فمعظمه من الأولاد والفتيان الدراجين في صحبة "عاملات في الخدمة المنزلية"، على قول لافتات الأمن العام، وقليله في صحبة أهل من الثلاثيين ومقتبل الأربعين سناً.

جمهور المشائين

ولعل قيام المسرح في ملحق طرفي ومغلق( أو نصف دائري) من عمران بيروت على البحر وخلاء شاطئه، ومن وجه، وإيصاد إسفلته على السيارات والمركبات، من وجه آخر، هما العاملان الراجحان في وسم جمهوره، ووسم استعمال هذا الجمهور الممشى، بسمات يختلف بها عن جمهور مشائي كورنيش المنارة واستعمالهم إياه، وفي إيجابه مرفقاً اجتماعياً جديداً. فأول ما ينتج عن الوجهين هو تحرر المكان من ضبطه على جهة غالبة، ومن حمل مرتاديه على السير في عدد قليل من الاتجاهات والاقتصار عليها. فبينما يجري مشاؤو شرفة المنارة في مجريين غالبين، رواحاً إلى جهة ومجيئاً منها على طرفي الشرفة، يتذرر مرتادو "تتمة" الزيتونة على أماكن كثيرة لا حصر لها. فعلى المعنى الدقيق للكلمة لا أول للمسرح ولا آخر له، ولا وسط يتوسطه. ولا مدخل إليه معروفاً أو ملزماً، ولا مخرج منه على الضفتين هاتين. ولا يلزم دخوله من بوابتي السيارات الضيقتين، بجوار المبنى الفندقي الذي يحد الزيتونة شمالاً، الداخل بشيء، لا بالمشي، ولا بالوقوف، ولا بقصد الزنار أو اجتياز الأشرطة المتوازنة صوب أرض الشوك والعشب والرمل.

وعلى هذا، لا يسير المشاؤون ولا الدراجون صفين عريضين، أو كتلتين تختصران، مع استثناءات غير قليلة وفي مواضع دون أخرى، وجهات السير الغالبة، على ما هي الحال على رصيف كورنيش المنارة. فتستقبل المسارات الأربعة (من الخمسة، والمسار الخامس هو الأوسط وغير المعبد) في وقت واحد، أو أوقات متفاوتة، من استسهل مباشرة رياضته أو نزهته من هذا المسار أو ذاك، أو من هذا الباب أو ذاك. والعلامة الوحيدة الباقية على الاستقطاب هي موقف السيارات على مدخل الزيتونة.

ويفرّق عدد السكك وتحررها من ضبط الوجهات، المشائين، وينثرهم في أماكن لا تربط بينها هيئات هندسية ومرئية بسيطة، على شاكلة المخططات وعلامات كثيرة (اتجاه واحد أو جواز اتجاهين، سير ممنوع...). فيخلط الأمران، عددُ السكك والتحررُ من الوجهات، الناس خلطاً قوياً، ويحول بينهم وبين تعرف مواقعهم من مشيهم و"سعيهم".

فينتشرون جماعات أشبه بالحلقات على طول المسرح وعرضه. فثمة عند المفترقات الداخلية التقاء طريق جانبية "قادمة" من الضلع الأول بالمسار الشرقي أو بمفترق داخلي يفتح المسار الشرقي على الغربي- أو بمفترق داخلي يفتح المسار الشرقي على الغربي- جماعة تأتلف من الأولاد ودراجاتهم، ومن المتنزهين والمتنزهات مع كلابهم وكلابهن، ومن المروِّحين الذين "يشمون الهواء" ويروحون ويجيئون على غير غرض. وينزل الأولاد والدراجات والكلاب منازل بل مكانات عالية من عدد المرتادين وجمهورهم ووجوه استعمالهم المسرح. ويعود هذا إلى خلو المسرح من السيارات وحصر وقوفها أو ركنها ببوابة الزيتونة. ويوحد الخلو الطريقين المعبدتين بالرصيفين الاسمنتيين ويدمجها جميعاً في سرح متصل. ولا يخشى الأولاد- وبينهم من يزاول مشيه الأول، ومن يركب دراجته الأولى ذات العجلات الثلاث - ومن ينزه كلب البيت نزهته الأولى، ولا يخشى أهلهم الدوران على النفس في موضع يحميه اجتماع الكثرة من مفاجآت الدراجين. ويتعارف الأولاد وربما الأهل والخدم والفتيان، وتتعاوى الكلاب وتحاكي دعوات الغواية والعدوان. وينعقد الالتقاء على جمع مضطرب أو سائل، وسريع الالتئام والانفضاض والانتقال من موضع إلى آخر.

وعلى شاكلة السيولة نفسها تختار جماعة، تعد عشرات الراكضين المنظمين، الركض معاً، في إشراف مدرب أو منسق آمر وجهوري الصوت، فلا تحتار في اختيار مسار ركض، وتنتقل من مسار إلى آخر عند المفترقات أو المصلبيات التي توقع الجادتين الإسفلتيتين، وتتلاقى المواضع التي تجتمع فيها الجماعات المتفرقة، وتعرقل اجتيازها ركضاً. وتحذو جماعات الدراجين، على المثل نفسه. فيتخللون المشائين أو يتلافونهم، وينعطفون من المفترقات ويتمون سيرهم إلى الوجهة نفسها على المسار الموازي. ويمضي كلٌّ، مشائين ودراجين ومتحلقين وفضوليين متحادثين، على وجهه، فلا يضطر لا للتوقف، ولا لتغيير وجهته، ولا للعودة أدراجه.
ولا شك في أن مساحة المسرح، واعتزاله الآليات والمركبات، وبعد البناء منه على رغم هيمنة أبراج ميناء الحصن عليه، وقيامه على طرف برية عريضة من جهة الشرق ومُطِلاً على البحر من الغرب- هذه كلها عادت بالمسرح والمرفق المديني إلى دنيا أو عالم هَجَر منذ عقود المدينة "الحديثة" والأليفة وحياة أهلها. ومن علامات الهجر أن الخلاء يُلزم المشائين بارتياد المكان عند العصر والغروب اتقاءً للشمس في نهارات "الصيف". ويحول دون ارتياده في كل أوقات المطر، لاستحالة اللجوء إلى صادات مبنية تقيهم البلل.

وإذا شاء مزاول هذا المسرح - على مثال قول ماكيافيلي في الصيد إنه "مزاولة الناحية"- مقارنته بشبيه قريب منه، استعار درب العين في بعض البلدات الريفية (اللبنانية) منتصف القرن العشرين، أو الأسواق الأسبوعية في بعض آخر، أو احتفالات الأعياد، أو الملاعب البلدية والمدرسية... وهذه استعارات جزئية يجمع بينها التخفف من الانضباط على تقسيم المكان ومسرحه، ومن التقيد بوظائف أقسامه وأجزائه، وانتفاء المراتب بين الناس. وإلى هذا، يعقد مسرح الزيتونة بين الأرض، سهلاً وجبلاً، وبين البحر والسماء والضوء والهواء بعقد لا إكراه فيه، ويجدد في أثناء المزاولة معنى قديماً جعل من "الطبيعة" سكناً مطمئناً ومجانياً.


هوامش

[1] عن منير الدويري، مدير عام "سوليدير" في 2006، في تحقيق غيوم بوديسّو: أين الشراء بيروت في 2007؟ فوق مئة مشروع جديد Le Commerce du Levant، نيسان 2007، ص 36.

[2] حاولت، في مقالة سابقة، وصف الشرفة البحرية على مثال مسرح مديني ومرفق من مرافق سكن بيروت وجهازها، وضاح شرارة: أهواء بيروت ومسارحها، دار النهار- بيروت 2008، ص 186-211.

[3] في مقالة الكاتب: العمارة البيروتية الجديدة منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، مدينة بآلاف التاورز والغاردنز...، أشغال داخلية 7، 2015، بعض التفصيل في المسألة.


وضّاح شرارة كاتب وصحافيّ ومترجم لبنانيّ، درّس مادّة العلوم الاجتماعيّة في الجامعة اللبنانيّة. شارك في العمل النقابيّ والسياسيّ الحزبيّ، وترك المشاركة قبيل انفجار الحروب اللبنانيّة. انصرف إلى الكتابة، فكتب في المسائل اللبنانيّة: «في أصول لبنان الطائفيّ» (١٩٧٤)، و«حروب الاستتباع ـ– لبنان الحرب الأهليّة الدائمة» (١٩٧٧)، و«السلم الأهليّ البارد ـ لبنان المجتمع والدولة ١٩٦٤-١٩٦٧» (١٩٨٠)، و«خروج الأهل على الدولة» (٢٠٠٠). كتب في الحركات السياسيّة الإسلاميّة و"دُوَلها": «الأهل والغنيمة - مقوّمات السياسة في المملكة العربيّة السعوديّة» (١٩٨١)، و«دولة حزب الله ـ لبنان مجتمعًا إسلاميًّا» (١٩٩٦)، و«طوق العِمامة ـ الدولة الإيرانيّة الخمينيّة في معترك المذاهب والطوائف» (٢٠١٣). تناولَ اجتماعيّات بيروت في: «المدينة الموقوفة» (١٩٨٦)، و«أهواء بيروت ومسارحها» (٢٠٠٨). جمع مقالات في الكتب والسينما والشعر في كتابين: «تشريق وتغريب» (١٩٨٩)، و«تعبير الصور» (١٩٩٠). وكتب مقالة طويلة في: «أخبار الخبر، تعليقًا على أخبار مجنون بني عامر» (١٩٩١)، وصدر له أخيراً «ترجمة النساء» (٢٠١٤). نقل الى العربيّة بعض أعمال غرامشي، وكاستورياديس، وسولجينيتسين، ورينيه شار، وميشال تارديو، وآنا أخماتوفا، وباول تسيلان.