الشدائد، ننتظر مرورها انتظار عبور الغيمة. فالعادي - عندنا - محصور بين انقطاع وتعطيل، وجمهرة هشة قوامها بوادر وخطابات وانفعالات محمولة كلّها على "وهم" الاتصال: اتصال التاريخ أو تعاقب الأيام. هكذا، أمسى الظن والتشكّك في حد ذاتهما سُنّة الحياة.

على مدار السنوات العشرين الفائتة، شهدت عوالمنا إخفاقات الثورات الشعبية وتطبيع العسكرة وحظر التجوال وانتشار الاعتقالات العشوائية وتفشّي إرهاب الاستعمار الاستيطاني وفرض الهيمنة العسكرية الأميركية والتدخّل بالوساطة والإعدام خارج إطار القانون وفرض العقوبات ورفعها اعتباطاً حتى زهقت أنفاس مجتمعات واقتصاديات تعاني أصلاً في عزلتها. إن تقلّب الزمان هذا هو ما عهدنا، ولا نعرف غيره. صغنا على وتيرته وتيرة أيامنا، ورسمنا على محدداته خارطة مستقبلنا المرتجل، غير غافلين عن الخطر المحدق بالوقوع في هاوية الفوضى، بينما يجثم على أنفاسنا حس البقاء الفردي، على فظاظته.

على ذاك الحال تأسست أشكال ألوان، ما بين شدة الحرب وشدة مشروع إعادة الإعمار الذي خلّفها مصادراً أملاك المشاع. شأننا شأن أقراننا من مؤسسات المنطقة الثقافية، تعلّمنا المضي على درب وراء كل منعطف فيه تكمن القوى القاهرة، تتربص على وشك الوقوع. حين عقدنا في العام 2002 الدورة الأولى من ملتقى أشغال داخلية، ودعونا يومها الفنانين والدارسين والنشطاء والكتاب لصوغ مساءلات نقدية وتأليبات جمالية تتناول الوضع السياسي المتقلب، تزامن انطلاقها مع اشتعال شرارة انتفاضة الأقصى في فلسطين. أما الدورتين التاليتين فتم إرجاؤهما أكثر من ستة أشهر، أولاً بسبب الغزو الأميركي للعراق في نيسان 2003، ثم بسبب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في شباط 2005. وقتها استوى الوضع لأشغال داخلية وغيره من الفعاليات الثقافية التي استوجبت ترتيبات مشابهة، على ما عهدنا على تسميته بـ"انتظام جدول الانقطاع المنتظم". وهكذا، مضى نهج عملنا على منوال دوام الإرجاء، الأمر الذي فرض علينا ابتداع ممارسات لا بد لها أن تتعاطى مع تلك المعوقات.

في صباح 17 تشرين الأول 2019، كنا على أهبة الاستعداد لإطلاق الدورة الثامنة من أشغال داخلية، والتي نسجنا برنامجها من حول مفهومي "بناء العوالم" والمخيلة الثورية. وبحلول المساء، خرج الآلاف من المتظاهرين إلى شوارع المدن اللبنانية يطالبون بإنهاء ثلاثين عاماً من السياسات النيوليبرالية والطائفية والفساد. بدا لنا حينها أن الزمن نفسه قد التوى لتحقيق مطامح الناس. وبعد يومين، لم يؤسفنا إلغاء فعاليات الملتقى إذ وقفنا على أعتاب مرحلة مغايرة من انقطاع الزمن، صار معها الظن والشبهة والانقطاع والتعطيل - ولأول مرة - من مفردات مستقبل الحرية.

اليوم فرضت جائحة كوفيد-19 نفسها على حين غرة على كافة أرجاء البسيطة، فكشفت عن حدود خطط الطوارئ في ظل رأسمالية الاستخراج (استنفاد الموارد). ومجدداً، اضطررنا لإغلاق أبوابنا بسبب التباعد الاجتماعي وإجراءات الحجر والعزل. لقد أثبت إحكام الوباء قبضته على عيشنا فاعليته، إذ حثّنا على التعجيل بإعادة النظر في السمات الأساسية التي انتظم من حولها العالم، ولا سيما فيما يتعلق بأنماط الوجود الاقتصادي والاجتماعي. في إطار إعادة النظر هذه، لا محال من تناول حال الهشاشة العظيم الذي أسفر عنه تثمين علاقة رأس المال والشغل، في ظل اقتصاد لا يقوم إلا بالاستهلاك المفرط واستغلال الموارد الجائر. ذاع القول بأننا على مشارف عالم آت، صيغ من أجل استحضار كل منسي مستور، حتى صار يسبح فوق رؤوسنا ما لا يحصى من النبوءات والاحتمالات. بعضها يعدنا بتغيرات سبق أن أربكت نفوسنا في الماضي، وبعضها الآخر يبدو بدعاً، واعدة أو مفزعة، وكأننا بصدد عهد تحولات ربما أفضي - ببعض من الوعي - إلى تعافٍ.

ريثما تمحو حكوماتنا آثار ما اقترفته من جرائم الحكم على مدار عقود مضت، بغية التعاطي مع الجائحة الأزمة، يطرح القادرون منا أسئلة: كيف لنا أن نسكن عالماً مقطوعاً؟ هل سنعبر مخاض قلق الزمان والمكان هذه ببعض من الحكمة، أم هل يشلّ التشكّك أجسادنا وعقولنا؟ هل لنا أن نحرر مخيلاتنا من العنف الكامن بين طيات تكهنات ما هو آت؟ كيف نرفض دوام إرجاء تطلعاتنا وآمالنا وثوراتنا؟

حتى إن لم يثمر هذا المنعطف التاريخي عن ما يذكر، فكفانا أن نرضى صاغرين بما نجهله. لهذا، قررت «أشكال ألوان» إنشاء منصة للنشر الإلكتروني يجتمع عليها الفنانون والأدباء والباحثون والنشطاء في شتى الحقول والأصقاع، نستقرئ فيها مصائرنا المؤجّلة. نأمل لهذا التلاقح الفكري أن يفتح الباب أمام إمكانية استرداد إرادتنا المسلوبة، في ظل الورطة التي وقعنا فيها: إما من خلال إرهاصات بناء عوالم وتكهن، أو ربما بتدبير تناغم رصين مع اللحظة الراهنة.